فصل: تفسير الآيات رقم (35- 36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إنَّ الدّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ‏}‏‏.‏

الدِّينُ الذي يرتضيه، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه، وبالفضل يُلَقِّيه- هو الإِسلام‏.‏

والإسلام هو الإخلاص والاستسلام، وما سواه فمردود، وطريق النجاة على صاحبه مسدود‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ‏}‏‏.‏

جاءهم العلم الذي عليهم حجة، لا المعرفة التي لها بيان ومحجة، فأصروا على الجحود، لأنهم حُجِبُوا عن محل الشهود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

طالِعْهُم بعين التصريف كيلا يفترق بك الحال في شهود اختلافهم وتباين أطوارهم؛ فإنَّ مَنْ طالَعَ الكائناتِ بعين القدرة علم أن المُثْبِتَ للكلِّ- على ما اختص به كل واحد من الكل- واحدٌ‏.‏

فادْعُهم جهراً بجهر، واشهد تصريفنا إياهم سِرَّاً بسر، واشغل لسانك بنصحهم، وفرِّغ قلبك عن حديثهم، وأفرد سِرَّك عن شهودهم، فليس الذي كلفناك من أمورهم إلا البلاغ، والمُجرِي للأمور والمبدي- نحن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

إن الذين ربطناهم بالخذلان ووسمناهم بوصف الحرمان- أخْبِرْهم بأن إعراضنا عنهم مؤبد، وأن حكمنا سبق بنقلهم عن دار الجنان إلى دار الهوان، من الخذلان والحرمان إلى العقوبة والنيران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

أولئك الذين ليس لهم- اليومَ- توفيق بأعمالهم، ولا غداً تحقيق لآمالهم، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا في الدارين نصرتنا، ولم يشهدوا عِزَّنا وقدرتنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

امتحناك بدعوة من سبق علمنا بأنهم لا يستجيبون، فاصبر على ما أُمِرْتَ فيهم، واعلم سوء أحوالهم، فإنهم أهل التولِّي عن الإجابة، لأنهم فقدوا منا حسن التجلي بسابق الإرادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏‏.‏

عاقبناهم في الدنيا بالاستدراج حتى حكموا لأنفسهم بالنجاة وتخفيف العقاب، وسوف يعلمون تضاعف البلاء عليهم، ويحسبون أنهم على شيء ألا أنهم هم الكاذبون‏.‏

ظن المخطئون حكماً‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

هذه كلمة تعجب لما أخبر به عن تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن عند بهتة عقولهم ودهشة أسرارهم، وانقطاع دواعيهم، وانخلاع قلوبهم من مكامنها، وتراقيها إلى تراقيهم، ثم ما يلقونه من الحساب والعتاب، والعذاب والعقاب، وعدم الإكرام والإيجاب، وما في هذا الباب‏.‏

وقيامةُ الكفار يومَ الحشر، وقيامة الأحباب في الوقت، ولِشَرْحِ هذا تفسير طويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ‏}‏‏.‏

«اللهم» معناها يا الله والميم في آخرها بدل عن حرف النداء وهو يا‏.‏ فهذا تعليم الحق كيفية الثناء على الحق، أي صِفْني بما أسْتَحِقُّه من جلال القَدْر فَقُلْ‏:‏ يا مالكَ المُلْكِ لا شريكَ لكَ ولا مُعينَ، ولا ظهير ولا قرين، ولا مُقاسِمَ لكَ في الذات، ولا مُسَاهِمَ في المُلْك، ولا مُعَارِضَ في الإبداع‏.‏

‏{‏تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ‏}‏‏.‏

حتى نعلم أن الملك لك، والمَلِكُ من المخلوقين مَنْ تَذَلَّلَ له، ومنزوعٌ المُلْكُ ممن تكبَّر عليه؛ فَتَجمُّلُ الخَلْقِ في تذللهم للحق، وعِزُّهم في محوهم فيه، وبقاؤهم في فنائهم به‏.‏

‏{‏وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ‏}‏‏.‏

بعز ذاتك‏.‏

‏{‏وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ‏}‏‏.‏

بخذلانك‏.‏

وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك وتعزُّ من تشاء بيُمْنِ إقبالك، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك‏.‏ وتعزُّ من تشاء بأن تؤنسه بك، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك‏.‏ وتعز من تشاء بأن تشغله بك، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك‏.‏ وتعز من تشاء بسقوط أحكام نفسه، وتذل من تشاء بغلبة غاغة نفسه‏.‏ وتعز من تشاء بطوالع أُنسه وتذل من تشاء بطوارق نفسه‏.‏ وتعز من تشاء ببسطه بك، وتذل من تشاء بقبضه عنك‏.‏

و ‏{‏تُؤتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ يشد نطاق خدمتك، ‏{‏وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ‏}‏ بنفيه عن بساط عبادتك‏.‏ توتي الملك من تشاء بإفراد سِرِّه لك وتنزع الملك ممن تشاء بأن تربط قلبه بمخلوق، ‏{‏وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ‏}‏ بإقامته بالإرادة، ‏{‏وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ‏}‏ يردُّه إلى ما عليه أهل العادة‏.‏

‏{‏بِيَدِكَ الخَيْرُ‏}‏‏.‏

ولم يذكر الشر حفظاً لآداب الخطاب، وتفاؤلاً بذكر الجميل، وتطيراً من ذكر السوء‏.‏

‏{‏إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

من الحجب والجذب، ‏(‏والنصرة‏)‏ والخذلان، والأخذ والرد، والفرق والجمع، والقبض والبسط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

تولج الليل في النهار حتى يَغْلِبَ سلطانُ ضياءِ التوحيد فلا يَبْقَى من آثار النفس وظلماتها شيءٌ، وتولج النهار في الليل حتى كأن شموسَ القلوب كُسِفَت، أو كأن الليل دام، وكأن الصبح فُقِد‏.‏

وتخرج الحي من الميت حتى كأن الفترة لم تكن، وعهد الوصال رجع فَتيَّاً، وعُودُ القلوبِ غضّاً طريَّاً‏.‏

وتخرج الميت من الحي حتى كأن شجرة البرم أورقت شوكاً وأزهرت شوكاً، وكأن اليائس لم يجد خيراً، ولم يشم ريحاً، وتقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة‏.‏

‏{‏وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

حتى لا ‏(‏كدر‏)‏ ولا جُهْدَ ولا عَرَقَ جبينٍ، ولا تَعَبَ يمينٍ، لَيْلَهُ روحْ وراحة، ونهارُه طرب وبهجة، وساعاته كرامات، ولحظاته قُرُبات، وأجناس أفعاله على التفصيل لا يحصرها لسان، ولا يأتي على استقصاء كنهها عبارة ولا بيان‏.‏

وفيما لوَّحنا من ذلك تنبيه على طريق كيفية الإفصاح عنه‏.‏

ويقال لما قال‏:‏ ‏{‏وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ‏}‏ انكسر خُمَارُ كلِّ ظانٍّ أنه مَلِكٌ لأنه شاهد مُلكِهِ يعرض للزوال فَعَلِمَ أن التذلل إليه في استبقاء ملكه أولى من الإعجاب والإدلال‏.‏

ويقال المَلِكُ في الحقيقة- مَنْ لا يشغله شيء بالالتفات إليه عن شهود من هو المَلِكُ على الحقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

من حقائق الإيمان الموالاةُ في الله والمعاداة في الله‏.‏

وأوْلى مَنْ تسومه الهجرانَ والإعراضَ عن الكفار- نَفْسُك؛ فإنها مجبولةٌ على المجوسية حيث تقول‏:‏ لي ومني وبي، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 123‏]‏‏.‏

وإن الإيمان في هذه الطريقة عزيز، ومن لا إيمان له بهذه الطريقة من العوام- وإن كانوا قد بلغوا من الزهد والجهد مبلغاً عظيماً- فليسوا بأهل لموالاتك، والشكل بالشكل اليق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِى شَيءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ‏}‏‏.‏

صحبة الحق سبحانه وقربته لا تكون مقرونة بصحبة الأضداد وقربتهم- ألبتة‏.‏

‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ‏}‏‏:‏ هذا خطاب للخواص من أهل المعرفة، فأمَّا الذين نزلت رُتْبَتُهم عن هذا فقال لهم‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 131‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 281‏]‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ‏}‏ أن يكون عندكم أنكم وصلتم؛ فإن خفايا المكر تعتري الأكابر، قال قائلهم‏:‏

وأمِنْتُه فأتاح لي من مأمني *** مكراً، كذا مَنْ يأمن الأحبابا

ويقال‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ‏}‏ لأن يجري في وهم أحد أنه يصل إليه مخلوق، أو يطأ بساطَ العِزِّ قَدَمُ همة بشر، جلَّتْ الأحدية وعزَّت‏!‏

وإنَّ من ظن أنه أقربهم إليه ففي الحقيقة أنه أبعدهم عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

لا يَعْزُبُ معلوم عن علمه، فلا تحتشم من نازلة بك تسوءك، فعن قريب سيأتيك الغوث والإجابة، وعن قريب سيزول البلاء والمحنة، ويُعَجِّلُ المدَدَ والكفاية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا‏}‏‏.‏

وَدَّ أهل الطاعات أَنْ لو استكثروا منها، ووَدَّ أهل المخالفات أَنْ لو كبحوا لجامهم عن الركض في ميادينهم، قال قائلهم‏:‏

ولو إنني أُعْطِيتُ من دهري المُنَى *** وما كلُّ مَنْ يُعْطَى المنى بِمُسَدَّدِ

لَقُلْتَ لأيامٍ مَضَيْن‏:‏ ألا ارجعي *** وقلتُ لأيام أتيْن ألا ابعدي

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ‏}‏‏.‏

الإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه‏}‏ للعارفين، ومن قوله ‏{‏وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ‏}‏ للمستأنفين، فهؤلاء أصحاب العنف والعنوة، وهؤلاء أصحاب التخفيف والسهولة‏.‏

ويقال لمَّا قال‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه‏}‏ اقتضى أسماع هذا الخطاب تحويلهم فقال مقروناً به ‏{‏وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ‏}‏ لتحقيق تأميلهم، وكذلك سُنَّتُه يطمعهم في عين ما يروعهم‏.‏

ويقال أفناهم بقوله ‏{‏وَيُحَذِّركُمُ اللهُ نَفْسَهُ‏}‏ ثم أحياهم وأبقاهم بقوله ‏{‏وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏تُحِبُّونَ اللهَ‏}‏ فرق، و‏{‏يُحْبِبْكُمُ اللهُ‏}‏ جمع‏.‏

‏{‏تُحِبُّونَ اللهَ‏}‏ مشوب بالعلة، و‏{‏يُحْبِبْكُمُ اللهُ‏}‏ بِلا عِلّة، بل هو حقيقة الوصلة‏.‏ ومحبة العبد لله حالة لطيفة يجدها من نفسه، وتحمله تلك الحالة على موافقة أمره على الرضا دون الكراهية، وتقتضي منه تلك الحالة إيثاره- سبحانه- على كل شيء وعلى كل أحد‏.‏

وشرطُ المحبةِ ألا يكون فيها حظٌّ بحال، فَمنْ لم يَفْنَ عن حظوظه بالكلِّية فليس له من المحبة شظيَّة‏.‏

ومحبة الحق للعبد إرادته إحسانَه إليه ولطفَه به، وهي إرادةُ فضلٍ مخصوص، وتكون بمعنى ثنائه سبحانه عليه ومدحه له، وتكون بمعنى فضله المخصوص معه، فعلى هذا تكون من صفات فعله‏.‏

ويقال شرط المحبة امتحاء كليتك عنك لاستهلاكك في محبوبك، قال قائلهم‏:‏

وما الحبُّ حتى تنزف العين بالبكا *** وتخرس حتى لا تجيب المناديا

وهذا فرق بين الحبيب والخليل؛ قال الخليل‏:‏ ‏{‏فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقال الحبيبُ‏:‏ ‏{‏فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ‏}‏‏.‏

فإن كان مُتَّبعُ الخليل «منه» إفضالاً فإن متابعَ الحبيبِ محبوبُ الحقِّ سبحانه، وكفى بذلك قربة وحالاً‏.‏

ويقال قطع أطماع الكافة أن يسلم لأحدٍ نفس إلا ومقتداهم وإمامهم سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويقال في هذه الآية إشارة إلى أن المحبة غير معلولة وليست باجتلاب طاعة، أو التجرد عن آفة لأنه قال‏:‏ ‏{‏يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ بيَّن أنه يجوز أن يكون عبد له فنون كثيرة ثم يحبُّ اللهَ ويحبُّه الله‏.‏

ويقال قال أولاً‏:‏ ‏{‏يُحْبِبْكُمُ اللهُ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ والواو تقتضي الترتيب ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ سابقةٌ على الغفران؛ أولاً يحبهم ويحبونه ‏(‏وبعده‏)‏ يغفر لهم ويستغفرونه، فالمحبة توجِب الغفران لأن العفو يوجب المحبة‏.‏

والمحبة تشير إلى صفاء الأحوال ومنه حَبَبُ الأسنان وهو صفاؤها‏.‏

والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب في السر‏.‏

ويقال أحب البعير إذا استناخ فلا يبرح بالضرب‏.‏

والحبُّ حرفان حاء وباء، والإشارة من الحاء إلى الروح ومن الباء إلى البَدَن، فالمُحِبُّ لا يَدَّخِر عن محبوبه لا قلبَه ولا بَدَنَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

أمرهم بالطاعة ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْأ‏}‏ أي قَصَّرُوا في الطاعة بأن خالفوا، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ‏}‏ لم يَقُلْ العاصين بل قال الكافرين، ودليل الخطاب أنه يحب المؤمنين وإن كانوا عُصَاة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

اتفق آدم وذريته في الطينة، وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قِبَلِه، لا بالنَّسَب ولا بالسبب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

المُحَرَّرُ الذي ليس في رِقِّ شيء من المخلوقات، حرَّرَه الحق سبحانه في سابق حكمه عن رق الاشتغال بجميع الوجوه والأحوال‏.‏ فلمَّا نذرت أمُّ مريم ذلك، ووضعتها أنثى خَجِلت، فلمَّا رأتها قالت ‏{‏رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنْثَى‏}‏ وهي لا تصلح أن تكون محرراً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ‏}‏ ولعمري ليس الذكر كالأنثى في الظاهر، ولكن إذا تَقَبَّلَها الحقُّ- سبحانه وتعالى- طلع عنها كل أعجوبة‏.‏

ولما قالت ‏{‏إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا‏}‏ قالت ‏{‏فَتَقَبَّلْ مِنِّى‏}‏ فاستجاب، وظهرت آثار القبول عليها وعلى ابنها، ونجا بحديثها عَالَمٌ وَهَلَكَ بسببها عَالَمٌ، ووقعت الفتنة لأجلهما في عَالَم‏.‏

قالت‏:‏ ‏{‏وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ استجارت بالله من أن يكون للشيطان في حديثها شيء بما هو الأسهل، لتمام ما هم به من أحكام القلوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏‏.‏

حيث بَلَّغَها فوق ما تَمَنَّتْ أمها، ويقال تقبَّلها بقبول حسنٍ حتى أفردها لطاعته، وتولاّهَا بما تَولَّى به أولياءه، حتى أفضى جمع مَنْ في عصرها العَجَبَ من حُسْنِ توليه أمرها، وإن كانت بنتاً‏.‏

ويقال القبولُ الحَسَنُ حُسْنُ تربيته لها مع علمه- سبحانه- بأنه يُقال فيه بسببها ما يُقال، فلم يُبالِ بِقُبْح مقال الأعداء‏:‏

أجد الملامة في هواكِ لذيذةً *** حُبَّاً لذكرك فليلمني اللُّوَمُ

وكما قيل‏:‏

ليقل من شاء ما *** شاء فإني لا أُبالي

ويقال القبول الحسن أَنْ ربّاها على نعت العصمة حتى كانت تقول‏:‏ ‏{‏إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 18‏]‏‏.‏

‏{‏وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ حتى استقامت على الطاعة، وآثرت رضاه- سبحانه- في جميع الأوقات، وحتى كانت الثمرة منها مثل عيسى عليه السلام، وهذا هو النبات الحسن، وكفلها زكريا‏.‏ ومن القبول الحسن والنبات الحسن أَنْ جعل كافَلَها والقَيَّمَ بأمرها وحفظها نبياً من الأنبياء مثل زكريا عليه السلام، وقد أوحى الله إلى داود عليه السلام‏:‏ إنْ رأيْتَ لي طالباً فكُنْ له خادماً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هّذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏

‏.‏ مِنْ إمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبَّدُ فيه وهناك يوجد المحراب- فذلك عَبْدٌ عزيز‏.‏

ويقال مِنَ القبول الحسن أنه لم يطرح أمرَها كُلَّه وشُغْلُها على زكريا عليه السلام‏:‏ فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعهدها بطعام وَجَدَ عندها رزقاً لِيَعْلَمَ العاملون أن الله- سبحانه- لا يُلْقِي شُغْلَ أوليائه على غير، ومن خدم ولياً من أوليائه كان هو في رفق الولي لا إنه تكون عليه مشقة لأجل الأولياء‏.‏ وفي هذا إشارة لمن يخدم الفقراء أن يعلم أنه في رفق الفقراء‏.‏

ثم كان زكريا عليه السلام يقول‏:‏ ‏{‏أَنَّى لَكِ هَذَا‏}‏‏؟‏ لأنه لم يكن يعتقد فيها استحقاق تلك المنزلة، وكان يخاف أن غيره يغلبه وينتهز فرصة تعهدها ويسبقه بكفاية شُغْلها، فكان يسأل ويقول‏:‏ ‏{‏أَنَّى لَكِ هَذَا‏}‏ ومن أتاكِ به‏؟‏

وكانت مريم تقول‏:‏ هو من عند الله لا من عند مخلوق، فيكون لزكريا فيه راحتان‏:‏ إحداهما شهود مقامها وكرامتها عند الله تعالى، والثانية أنه لم يغلبه أحد على تعهدها، ولم يسبق به‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ‏}‏ فلفظة كلَّما للتكرار وفي هذا إشارة‏:‏ وهو أن زكريا عليه السلام لم يَذَرْ تَعهُّدَها- وإنْ وجد عندها رزقًا- بل كل يومٍ وكل وقتٍ كان يتفقد حالها لأن كراماتِ الأولياء ليست مما يجب أن يدوم ذلك قطعاً؛ فيجوز أن يُظهِرَ الله ذلك عليهم دائماً، ويجوز ألا يظهر، فما كان زكريا عليه السلام يعتمد على ذلك فيترك تفقد حالها، ثم كان يُجَدِّدُ السؤال عنها بقوله‏:‏ ‏{‏يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا‏}‏‏؟‏ لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس، فإنه لا واجب على الله سبحانه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ إيضاح عن عين التوحيد، وأن رزقه للعباد، وإحسانه إليهم بمقتضى مشيئته، دون أن يكون مُعَلَّلاً بطاعاتهم ووسيلة عباداتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

أي لما رأى كرامة الله سبحانه معها ازداد يقيناً على يقين، ورجاء على رجاء؛ فسأل الوَلَدَ على كبر سِنِّه، وإجابتُه إلى ذلك كان نقضاً للعادة‏.‏

ويقال إن زكريا عليه السلام سأل الوَلَدَ ليكونَ عوناً له على الطاعة، ووارثاً من نَسْلِه في النبوة، ليكون قائماً بحقِّ الله، فلذلك استحق الإجابة؛ فإن السؤال إذا كان لحقِّ الحقِّ- لا لحظِّ النَّفْسِ- لا يكون له الرد‏.‏

وكان زكريا عليه السلام يرى الفاكهة الصيفية عند مريم في الشتاء، وفاكهة الشتاء عندها في الصيف، فسأل الولد في حال الكِبَر ليكون آية ومعجزة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَنَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى المِحْرَابِ‏}‏‏.‏

لما سأل السؤال، ولازم البال أَتَتْهُ الإجابةُ‏.‏

وفيه إشارة إلى أن من له إلى الملوك حاجة فعليه بملازمة الباب إلى وقت الإجابة‏.‏

ويقال حكم الله- سبحانه- أنه إنما يقبل بالإجابة على من هو مُعَانِقٌ لخدمته، فأمَّا مَنْ أعرض عن الطاعة ألقاه في ذُلِّ الوحشة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

قيل سمَّاه يحيى لحياة قلبه بالله، ولسان التفسير أنه حي به عقر أمه‏.‏

ويقال إنه سبب حياة من آمن به بقلبه‏.‏

قوله‏:‏ مصدقاً بكلمة من الله‏:‏ أن تصديقه بكلمة «الله» فيما تعبده به أو هو مكوَّن بكلمة الله‏.‏

وقوله ‏{‏وَسَيِّدًا‏}‏‏:‏ السيدُ من ليس في رق مخلوق، تحرَّر عن أسر هواه وعن كل مخلوق، ويقال السيد من تحقق بعلويته سبحانه، ويقال السيد من فاق أهل عصره، وكذلك كان يحيى عليه السلام‏.‏

ويقال سيد لأنه لم يطلب لنفسه مقامًا، ولا شَاهَدَ لنفسه قَدْرًا‏.‏ ولما أخلص في تواضعه لله بكل وجهٍ رقَّاه على الجملة وجعله سيداً للجميع‏.‏

وقوله ‏{‏وَحَصُورًا‏}‏ أي مُعْتَقاً من الشهوات، مكفياً أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر‏.‏ ويقال متوقياً عن المطالبات، مانعاً نفسه عن ذلك تعززاً وتقرباً، وقيل منعته استئصالات بواده الحقائق عليه فلم يبق فيه فَضْلٌ لحظِّ‏.‏

‏{‏وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ أي مستحقاً لبلوغ رتبتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قيل كان بين سؤاله وبين الإجابة مدة طويلة ولذلك قال‏:‏ أنَّى يكون لي غلام‏؟‏

ويحتمل أنه قال‏:‏ بأي استحقاقٍ مني تكون له هذه الإجابة لولا فضلك‏؟‏

ويحتمل أنه قال أنَّى يكون هذا‏:‏ أَعَلَى وَجهِ التبني أم على وجه التناسل‏؟‏

ويحتمل أنه يكون من امرأة أخرى سوى هذه التي طعنت في السن أو من جهة التَّسرِّي بمملوكة‏؟‏ أمْ مِنْ هذه‏؟‏

فقيل له‏:‏ لا بَلْ مِنْ هذه؛ فإنكما قاسيتما وحشة الانفراد معاً، فكذلك تكون بشارة الولد لكما جميعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِى آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إلاَّ رَمْزًا‏}‏‏.‏

طلب الآية ليعلم الوقت الذي هو وقت الإجابة على التعيين لا لِشك له في أصل الإجابة‏.‏

وجعل آية ولايته في إمساك لسانه عن المخلوقين مع انطلاقها مع الله بالتسبيح، أي لا تمتنع عن خطابي فإني لا أمنع أوليائي من مناجاتي‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيرًا‏}‏‏.‏

بقلبك ولسانك في جميع أوقاتك‏.‏

‏{‏وَسَبِّحْ بِالعَشِىِّ وَالإِبْكَارِ‏}‏‏.‏

في الصلاة الدائبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون هذا ابتداء خطاب من الملائكة على مريم من قِبَلِهم رفعاً بشأنها، ويجوز أن تكون قد سمعت كلامهم وشاهدتهم، ويجوز أنها لم تشاهدهم وأنهم هتفوا بها‏:‏ إن الله اصطفاك بتفضيلك، وإفرادكِ من أشكالك وأندادك، وطَهَّرَكِ من الفحشاء والمعاصي بجميل العصمة، وعن مباشرة الخلْق، واصطفاك على نساء العالمين في وقتك‏.‏

وفائدة تكرار ذكر الاصطفاء‏:‏ الأول اصطفاك بالكرامة والمنزلة وعلو الحالة والثاني اصطفاكِ بأَنْ حَمَلْتِ بعيسى عليه السلام من غير أب، ولم تشبهك امرأة- ولن تشبَهك- إلى يوم القيامة، ولذلك قال ‏{‏عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

لازمي بساط العبادة، وداومي على الطاعة، ولا تُقَصِّرِى في استدامة الخدمة، فكما أفردكِ الحقُّ بمقامك، كوني في عبادته أوحد زمانك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

أي هذه القصص نحن عرفناكها و‏(‏خا‏)‏ طبناك بمعانيها، وإنْ قَصَصْنَا نحن عليك هذا- فعزيزٌ خطابُنا، وأعزُّ وأتم مِنْ أَنْ لو كنتَ مشاهداً لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

لم يُبَشرها بنصيب لها في الدنيا ولا في الآخرة من حيث الحظوظ، ولكن بَشَّرها بما أثبت في ذلك من عظيم الآية، وكونه نبياً لله مؤيَّداً بالمعجزة‏.‏

ويقال عرَّفها أن مَنْ وقع في تغليب القدرة، وانتهى عند حكمه يَلْقَى من عجائب القدرة ما لا عهد به لأحد‏.‏ ولقد عاشت مريم مدةً بجميل الصيت، والاشتهار بالعفة، فشوَّش عليها ظاهر تلك الحال بما كان عند الناس بسبب استحقاق ملام، ولكن- في التحقيق- ليس كما ظَنَّهُ الأغبياء الذين سكرت أبصارهم من شهود جريان التقدير‏.‏

وقيل إنه ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ عَرَّفها ذلك بالتدريج والتفصيل، فأخبرها أن ذلك الولَدَ يعيش حتى يُكَلِّمَ الناس صبيَّا وكهلا، وأن كيد الأعداء لا يؤثر فيه‏.‏

وقيل كهلاً بعد نزوله من السماء‏.‏

ويقال ربط على قلبها بما عرَّفها أنه إذا لم ينطق لسانها بذكر براءة سَاحتها يُنْطِقُ اللهُ عيسى عليه السلام بما يكون دلالة على صدقها وجلالتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَت رَبِّ أنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ‏}‏‏.‏

كما شاهدت ظهور أشياء ناقضة للعادة في رزقنا فكذلك ننقض العادة في خلق ولدٍ من غير مسيس بشر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا‏}‏‏.‏

أي أراد إمضاء حُكْم‏.‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏.‏

فلا يتعسر عليه إبداء ولا إنشاء‏.‏

ولمَا بسطوا فيها لسان الملامة أنطق الله عيسى عليه السلام وهو ابن يومٍ حتى قال‏:‏

‏{‏أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

وتلك آياته الظاهرة، ودلالاته القاهرة الباهرة من إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص، والإخبار عما عملوه مُسِرِّين به، إلى غير ذلك من معجزاته‏.‏ وأخبر أنه مصدِّق لما تقدمه من الشرائع، ومختص بشريعةٍ تنسخ بعض ما تقدمه، وأقرهم على البعض- على ما نطق به تفصيل القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ‏}‏ الآية‏.‏

حين بَلَّغهم الرسالة واختلفوا- فمنهم من صدَّقه ومنهم من كذّبه وهم الأكثرون- عَلِمَ أن النبوة لا تنفك عن البلاء وتسليط الأعداء، فقطع عنهم قلبه، وصدق إلى الله قصده، وقال لقومه‏:‏ مَنْ أنْصاري إلى الله ليساعدوني على التجرد لحقِّه والخلوص في قصده‏؟‏ فقال مَنْ انبسطت عليهم آثار العناية، واستخلصوا بآثار التخصيص‏:‏ نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد علينا بالصدق، وليس يشكل عليك شيءٌ مما نحن فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

وأما الباقون فجدُّوا في الشقاق، وبالغوا في العداوة، ودسُّوا له المكائد، ومكروا ولكن أذاقهم الله وبال مكرهم، فتوهموا أنهم صلبوا عيسى عليه السلام وقتلوه، وذلك جهل منهم، ولَبْسٌ عليهم‏.‏ فاللهُ- سبحانه- رفع عيسى عليه السلام نبيَّه ووليَّه، وحُقُّ الطردُ واللَّعنُ على أعدائه، وهذا مَكْرُهُ بهم‏:‏

‏{‏وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ‏}‏‏.‏

الإشارة فيه إني متوفيك عنك، وقابضك منك، ورافعك من نعوت البشرية، ومطهرك من إرادتك بالكلية، حتى تكون مُصَرَّفاً بنا لنا، ولا يكون عليك من اختيارك شيء، ويكون إسبال التولي عليك قائماً عليك‏.‏ وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة- جّلَّتْ‏.‏

ويقال طَهَّرَ قلبه عن مطالعة الأغيار، ومشاهدة الأمثال والآثار، في جميع الأحوال والأطوار‏.‏

‏{‏وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَة‏}‏‏.‏

بالنصرة والقهر والحجة‏.‏

ومتبعوه مَنْ لم يُبَدِّل دِينه ومَنْ هو على عقيدته في التوحيد- وهم المؤمنون، فَهُمْ على الحقِّ، إلى يوم القيامة لهم النصرة، ثم إن الله سبحانه يحكم- يوم القيامة- بينه وبين أعدائه‏.‏ فأمّا الكفار ففي الجحيم وأمّا المؤمنون ففي النعيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏‏}‏

ذلك نتلوه عليك يا محمد، نعرفك معانيه بما نوحي إليك، لا بتكلفك ما تصل إلى عِلْمِه، أو بِتَعلُّمِك من الأمثال، أو استنباطك ما تنزع من الاستدلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ‏}‏ الآية‏.‏

خَصَّهما بتطهير الروح عن التناسخ في الأصلاب وأفرد آدم بصفَةِ البدء؛ وعيسى عليه السلام بتخصيص نفخ الروح فيه على وجه الإعزاز، وهما وإنْ كانا كبيري الشأن فنِقْصُ الحدثان والمخلوقية لازِمٌ لهما‏:‏

‏{‏ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الحَقُّ مِن رَّبِّكَ‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏الحَقُّ مِن رَّبِّكَ‏}‏ يا محمد، فلا تَشُكَّن في أنه- سبحانه- لا يماثله في الإيجاد أَحَدٌ، ولا على إثبات بينه لمخلوق قدرة‏.‏ والموجودات التي ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وجودها عن كتم العَدَم- من الله مبدؤها وإليه عَوْدُها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ‏}‏ الآية‏.‏

يعني بعدما ظَهَرْتَ على صدق ما يُقال لك، وتَحقَّقْتَ بقلبك معرفة ما خاطبناك، فلا تحتشم من حملهم على المباهلة، وثقْ بأن لك القهر والنصرة، وأَنَّا توليناك، وفي كنف قُرْبنا آويناك، ولو أنهم رغبوا في هذه المباهلة لأحرقت الأودية عليهم نيراناً مؤججة، ولكن أخَّر الله- سبحانه- ذلك عنهم لعلمه بِمَنْ في أصلابهم من المؤمنين‏.‏

والإشارة في هذه الآية لِمَنْ نزلت حالته عن أحوال الصديقين، فإنه إذا ظهرت أنوارهم انخنست آثار هؤلاء فلا إقرار، ولا عنهم آثار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ‏}‏‏.‏

لا يتسلط على شواهد التوحيد غبار شبهة، ولا يدرك سر حكمه وهم مخلوق، ولا يدانيه معلوم يحصره الوجود، أو موهوم يصوره التقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

فإن تولوا- يا محمد- فإنه لا ثَبَاتَ عند شعاع أنوارك لشبهة مُبْطِل‏.‏

‏{‏فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ‏}‏ إمَّا يجتاحهم، أو يحلم حتى إذا استمكنَتْ ظنونُهم يأخذهم بغتَةً وهم لا يُنْصَرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُل يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ الآية‏.‏

هي كلمة التوحيدِ وإفرادِ الحق سبحانه في إنشاء الأشياء بالشهود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ نَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ‏}‏‏:‏ لا تطالع بِسِرِّك مخلوقاً‏.‏ وكما لا يكون غيرُه معبودَك فينبغي ألا يكون غيرُه مقصودَك ولا مشهودَك، وهذا هو اتِّقاء الشِرْك، وأنت أول الأغيار الذين يجب ألا تشهدهم‏.‏

‏{‏وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًاْ‏}‏ ويظهر صدقُ هذا بترك المدح والذم لهم‏.‏

ونفي الشكوى والشك عنهم، وتنظيف السر عن حسبان ذرة من المحو والإثبات منهم‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم «أصدق كلمة قالتها العربُ قول لبيد»

ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيمٍ لا مَحالة زائل

فإنَّ الذي على قلوبهم من المشاق أشد‏.‏ وأمَّا أهل البداية فالأمر مُضيَّقٌ عليهم في الوظائف والأوراد، فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب، لفراغهم بقلوبهم من المعاني، فمن ظنَّ بخلاف هذا فقد غلط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ الآية‏.‏

ضرب على خليله- صلوات الله- نقاب الضنَّة وحجاب الغيرة، فقطع سببه عن جميعهم بعد ادِّعاء الكل فيه، وحَكَمَ بتعارض شُبُهَاتِهم، وكيف يكون إبراهيم- عليه السلام- على دين مَنْ أتى بعده‏؟‏‏!‏ إن هذا تناقضٌ من الظن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

يعني ما كان في كتابكم له بيان، ويصح أن يكون لكم عليه برهان، فَخَصَّهُمْ في ذلك إمَّا بحق وإما بباطل، فالذي ليس لكم ألبتة عليه دليل ولا لكم إلى معرفته سبيل فكيف تصديتم للحكم فيه، وادِّعاء الإحاطة به‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا‏}‏‏.‏

الحنيف المستقيم على الحق، والأحنف هو المستقيم في حلقة الرِّجْل، ويسمى مائل القَدَم بذلك على التفاؤل وإبراهيم عليه السلام كان حنيفاً لا مائلاً عن الحق، ولا زائغاً عن الشرع، ولا مُعَرِّجاً على شيء وفيه نصيب للنفس، فقد سَلَّم مَالَه ونَفْسَه ووَلدَه، وما كان له به جملةً- إلى حكم الله وانتظار أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

لما تفرقت الأهواء والبدع وصار كل حزب إلى خطأ آخر، بقي أهل الحقِّ في كل عصر وكل حين ووقت على الحجة المثلى، فكانوا حزباً واحداً، فبعضهم أَوْلى ببعض‏.‏ وإبراهيم صاحب الحق، ومن دان بدينه- كمثل رسولنا صلى الله عليه وسلم وأمته- على الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى‏.‏

‏{‏وَاللهُ وَلِىُّ المُؤْمِنِينَ‏}‏ لأنهم تولَّوْا دينه، ووافقوا توحيده، وولاية الله إنما تكون بالعَوْن والنصرة والتخصيص والقربة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَدَّت طِّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَو يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ‏}‏‏.‏

من حلَّت به فتنة، وأصابته محنة، واستهوته غواية- رَضِي لجميع الناس ما حلّ به، فأهل الكتاب يريدون بالمؤمنين أن يزيغوا عن الحق، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يعودَ إليهم وبالُ فعلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قَبْلَ بعثه- صلى الله عليه وسلم- على صحة نبوته، فما الذي يحملكم على غيكم حتى جحدتم ما علمتم‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

تكتمون الحق في شأن محمد عليه السلام وأنتم تعلمون أنه النبي الصادق، وهل هذا حكم الخذلان وقضية الحرمان، ثم أخبر أَنَّ منهم من ينافق في حالته، فيريد أن يدفع عنه أذى المسلمين، ولا يخالف إخوانه من الكافرين، فتواصوا فيما بينهم بموافقة الرسول عليه السلام والمسلمين جهراً، والخلوص في عقائدهم الفاسدة بعضهم مع بعض سِرَّاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

فبين اله سبحانه أن نفاقهم كُشِف للمسلمين، وأن ذلك لا ينفعُهم أمَّا في الدنيا فَلإِطْلاع الله نبيُّه عليه السلام والمؤمنين- عليه، وأَمَّا في الآخرة فَلِفَقْدِ إخلاصهم فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏‏.‏

يحتمل أن يكون هذا ابتداء أمر من الله سبحانه للمسلمين، والإشارة فيه ألا تعاشروا الأضداد، ولا تفشوا أسراركم للأجانب‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ‏}‏‏.‏

فهو الذي يختص من يشاء بأنوار التعريف، ويختص من يشاء بالخذلان والحرمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

يختص من يشاء بفنون إنعامه، فالرحمة على هذا سبب لتخصيص النعمة لمن أراده‏.‏ ولا بُدَّ من إضمار فيحتمل أن يختص بالرحمة من يشاء فلا تجري الرحمة مجرى السبب فالرحمة على هذا التأويل تكون بمعنى النبوة وتكون بمعنى الولاية‏.‏

وبمعنى العصمة وجميع أقسام الخيرات التي يختصُّ- بشيء منها- عبداً من عباده، فيدخل تحت قوله‏:‏ ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ‏}‏ أي بنعمته‏.‏

فقومٌ اختصهم بنعمة الأخلاق وقوم اختصهم بنعمة الأرزاق، وقوم اختصهم بنعمة العبادة وآخرين بنعمة الإرادة، وآخرين بتوفيق الظواهر وآخرين بعطاء الأبشار، وآخرين بلقاء الأسرار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏

ويقال لمَّا سمعوا قوله‏:‏ ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ‏}‏، علموا أن الوسائل ليست بهادية، وإنما الأمر بالابتداء والمشيئة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ‏}‏ بالفهم عنه فيما يكاشفه به من الأسرار ويلقيه إليه من فنون التعريفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنَهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ الآية‏.‏

أخبر أنهم- مع ضلالتهم وكفرهم- متفاوتون في أخلاقهم، فكُلُّهمْ خَوَنَةٌ في أمانة الدِّين، ولكنّ منهم من يرجع إلى سداد المعاملة، ثم وإن كانت معاملتهم بالصدق فلا ينفعهم ذلك في إيجاب الثواب ولكن ينفعهم من حيث تخفيف العذاب؛ إذ الكفار مُطَالَبُون بتفصيل الشرائع، فإذا كانوا في كفرهم أقلَّ ذنباً كانوا بالإضافة إلى الأخسرين أقلَّ عذاباً، وإن كانت عقوبتهم أيضاً مؤبَّدة‏.‏

ثم بيَّن أنه ليس الحكم إليهم حتى إذا‏:‏

‏{‏قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ‏}‏‏.‏

فلا تجري عليهم هذه الحالة، أو تنفعهم هذه القالة، بل الحكم لله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

الذين آثروا هواهم على عُقباهم، وقدَّموا مناهم على موافقة مولاهم أولئك لا نصيب لهم في الآخرة؛ فللاستمتاع بما اختاروا من العاجل خسروا في الدارين‏.‏

بقوا عن الحق، وما استمتعوا بحظِّ، جَمَعَ عليهم فنون المِحَن ولكنهم لا يدرون ما أصابهم، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ثم مع هذا يُخَلِّدُم في العقوبة الأبدية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

الإشارة من هذه الآية إلى المبطلين في الدعاوى في هذه الطريقة‏.‏

يزيِّنون العبارات، ويطلقون ألسنتهم بما لا خَبَرَ في قلوبهم منه، ولا لهم بذلك تحقيق، تلبيساً على الأغبياء والعوام وأهل البداية؛ يوهمون أن لهم تحقيق ما يقولونه بألسنتهم‏.‏ قال تعالى في صفة هؤلاء ‏{‏لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ‏}‏، كذلك أرباب التلبيس والتدليس، يُرَوِّجون قالتَهم على المستضعفين، فأما أهل الحقائق فأسرارهم عندهم مكشوفة‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏، أي يعلمون أنهم كاذبون، كذلك أهل الباطل والتلبيس في هذه الطريقة يتكلمون عن قلوب خَرِبةَ، وأسرار محجوبة، نعوذ بالله من استحقاق المقت‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

أي ليس من صفة مَنْ اختراناه للنبوة واصطفيناه للولاية أن يدعو الخلق إلى نفسه، أو يقول بإثبات نفسه وحظِّه، لأن اختياره- سبحانه- إياهم للنبوة يتضمن عصمتهم عَمَّا لا يجوز، فتجويز ذلك في وصفهم مُنافٍ لحالهم، وإنما دعاء الرسل والأولياء- للخلق- إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ‏}‏ أي إنما أشار بهم على الخلق بأن يكونوا ربانيين، والربَّاني منسوبٌ إلى الرب كما يقال فلان دقياني ولحياني *** وبابه‏.‏

وهم العلماء بالله الحلماء في الله القائمون بفنائهم عن غير الله، المستهلكة حظوظهم، المستغرِقون في حقائق وجوده عن إحساسهم بأحوال أنفسهم، ينطقون بالله ويسمعون بالله، وينظرون بالله، فهم بالله مَحْوٌ عمَّا سنى الله‏.‏

ويقال الرباني من ارتفع عنه ظِلِّ نفسه، وعاش في كنف ظلِّه- سبحانه‏.‏

ويقال الرباني الذي لا يُثْبِتُ غير ربِّه مُوَحَّداً، ولا يشهد ذرة من المحو والإثبات لغيره أو مِنْ غيره‏.‏

ويقال الربَّاني من هو مَحْقٌ في وجوده- سبحانه- ومحو عن شهوده، فالقائم عنه غَيْرُه، والمُجْرِي لِمَا عليه سواه‏.‏

ويقال الربَّاني الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها‏.‏

ويقال الربَّاني الذي لا تُغَيِّره محنة ولا تَضُرُّه نِعْمة- فهو على حالة واحدة في اختلاف الطوارق‏.‏

ويقال الربَّاني الذي لا يتأثر بورود واردٍ عليه، فَمَنْ استنطقته رقة قلبِ، أو اسْتَمَالَه هجومُ أمر، أو تفاوتت عنده أخطار حادث- فليس برباني‏.‏

ويقال إنَّ الربَّاني هو الذي لا يبالي بشيء من الحوادث بقلبه وسِرِّه، ومن كان لا يقصر في شيء من الشرع بفعله‏.‏

‏{‏بِمَا كُنتُْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ‏}‏ مِنْ توالي إحساني إليكم، وتضاعف نعمتي لديكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

أي لا تنسبون إليهم ذرة من الإثبات في الخير والشر‏.‏

ويقال يعرفكم حدَّ البشرية وحقَّ الربوبية‏.‏

ويقال يأمركم بتوقيرهم من حيث الأمر والشريعة، وتحقير قدر الخلق- بالإضافة إلى الربوبية‏.‏ ‏{‏أَيَأْمُرُكُم بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ أيأمركم بإثبات الخلق بعد شهود الحق‏؟‏

ويقال‏:‏ أيأمركم بمطالعة الأشكال، ونسبة الحدثان إلى الأمثال، بعد أن لاحت في أسراركم أنوار التوحيد، وطلعت في قلوبكم شموس التفريد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ‏}‏ الآية‏.‏

أخذ الله ميثاق محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء عليهم السلام، كما أخذ ميثاقهم في الإقرار بربوبيته- سبحانه، وهذا غاية التشريف للرسول عليه السلام، فقد قَرَنَ اسمه باسم نفسه، وأثبت قَدْرَة كما أثبت قدر نفسه، فهو أوحد الكافة في الرتبة، ثم سَهَّلَ سبيلَ الكافة في معرفة جلاله بما أظهر عليه من المعجزات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

الإشارة فيه‏:‏ فَمَنْ حاد عن سُنَّتِه، أو زاغ عن اتباع طريقته بعد ظهور دليله، ووضوح معجزته فأولئك هم الذين خَبُثَتْ درجتهم، ووجب المقت عليهم لجحدهم، وسقوطهم عن تعلُّق العناية بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏‏.‏

مَنْ لاحظه على غير الحقيقة، أو طالع سواه في توهم الأهلية كَرَاءِ السراب ظَنَّه ماءً فلمَّا أتاه وجده هباءً‏.‏ ومغاليط الحسبانات مُقَطّعِةٌ مُشِكلَةٌ فَمَنْ حَلَّ بها نَزَلَ بوادٍ قَفْرٍ‏.‏

‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ لإجراء حكم الإلهية على وجه القهر عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

آمنا بالله لا بنفوسنا أو حَوْلنا أو قوتنا‏.‏

وآمنا بما أنزل علينا بالله، وأَنَّا لا نُفَرِّق بين أحد منهم-بالله سبحانه- لا بحولنا واختيارنا، وجهدنا واكتسابنا، ولولا أنه عرَّفنا أنه مَنْ هو ما عرفنا وإلا فمتى عَلِمْنا ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

مَنْ سَلَكَ غير الخمود تحت جريان حكمه سبيلاً زَلَّتَ قَدَمُه في وهدة من المغاليط لا مدى لقعرها‏.‏

ويقال من توسَّل إليه بشيء دون الاعتصام به فخُسْرانه أكثر من رِبْحِه‏.‏

ويقال من لم يَفْنَ عن شهود الكل لم يصل إلى مَنْ به الكل‏.‏

ويقال مَنْ لم يَمْشِ تحت راية المصطفى صلى الله عليه وسلم المُعظَّم في قَدْره، المُعَلَّى في وصفه، لم يُقْبَلْ منه شيء ولا ذرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ‏}‏ الآية‏.‏

مَنْ أبعده عن استحقاق الوصلة في سابق حكمه فمتى يقربه من بساط الخدمة بفعله في وقته‏؟‏

ويقال‏:‏ الذي أقصاه حكم ‏(‏الأول‏)‏ متى أدناه صدق العمل‏؟‏ والله غالبٌ على أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

أولئك قصارى حالهم ما سبق لهم من حكمه في ابتداء أمرهم، ابتداؤهم ردُّ القسمة، ووسائطهم الصدُّ عن الخدمة، ونهايتهم المصير إلى الطرد والمذلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

خالدين في تلك المذلة لا يفتر عنهم العذاب لحظة، ولا يخفف دونهم الفراق ساعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏‏}‏

أولئك هم الذين تداركتهم الرحمة، ولم يكونوا في شق السبق من تلك الجملة، وإن كانوا في توهم الخلق من تلك الزمرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

الإشارة منه‏:‏ أن الذين رجعوا إلى أحوال أهل العادة بعد سلوكهم طريق الإرادة، وآثروا الدنيا ومطاوعة الهوى على طلب الحق سبحانه وتعالى، ثم أنكروا على أهل الطريقة، وازدادوا في وحشة ظلماتهم- لن تُقبلَ توبتهم، ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ‏}‏ عن طريق الحق فإنه لا يقبل الأمانة بعد ظهور الخيانة‏.‏ وعقوبتهم أنهم على ممر الأيام لا يزدادون إلا نفرة قلب عن الطريقة، ولا يتحسرون على ما فاتهم من صفاء الحالة‏.‏ ولو أنهم رجعوا عن إصرارهم لها لقُبِلت توبتهم، ولكن الحق سبحانه أجرى سنته مع أصحاب الفترة في هذه الطريقة إذا رجعوا إلى أصول العادة ألا يتأسَّفوا على ما مضى من أوقاتهم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏ وإن المرتدَّ عن الإسلام لأشدُّ عداوة للمسلمين من الكافر الأصلي، فكذلك الراجع عن هذه الطريقة لأشد إنكاراً لها وأكثر إعراضاً عن أهلها من الأجنبيِّ عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

الإشارة منه‏:‏ لِمنْ مات بعد فترته- وإن كانت له بداية حسنة- فلا يحشر في الآخرة مع أهل هذه القصة، ولو تشفع له ألف عارف، بل من كمال المكر به أنه يلقى شبهه في الآخرة على غيره حتى يتوهم معارفه من أهل المعرفة أنه هو- فلا يخطر ببال أحد أنه ينبغي أن يشفع له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

لمَّا كان وجود البرِّ مطلوباً ذكر فيه «مِنْ» التي للتبعيض فقال‏:‏ ‏{‏مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏؛ فَمنْ أراد البر فلينفق مما يحبه أي البعض، وَمَنْ أراد البَارَّ فلينفقْ جميع ما يحبه‏.‏ ومن أنفق محبوبه من الدنيا وَجَدَ مطلوبه من الحق تعالى، ومن كان مربوطاً بحظوظ نفسه لم يحظ بقرب ربِّه‏.‏

ويقال إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البارّ وأنت تؤثر عليه حظوظك‏.‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ منهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعِوض، ومنهم من ينفق على مراقبة دفع البلاء والحَزن، ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه، قال قائلهم‏:‏

ويهتز للمعروف في طلب العلى *** لتُذكَرَ يوماً- عند سلمى- شمائلُه

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 94‏]‏

‏{‏كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

الأصل في الأشياء ألا يشرع فيها بالتحليل والتحريم، فما لا يوجد فيه حدٌّ فذلك من الحق- سبحانه- توسعة ورفقة إلى أن يحصل فيه أمر وشرع؛ فإنَّ الله- سبحانه- وسَّعَ أحكام التكليف على أهل النهاية، فسبيلهم الأخذ بما هو الأسهل لتمام ما هم به من أحكام القلوب، فإن الذي على قلوبهم من المشاق أشد‏.‏ وأما أهل البداية فالأمر مضيَّقٌ عليهم في الوظائف والأوراد؛ فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب لفراغهم بقلوبهم من المعاني، فمن ظنّ بخلاف هذا فقد غلط‏.‏

والإشارة من هذه الآية أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ‏}‏ إلى أحوال أهل الدعاوى والمغاليط؛ فإنهم يخلون بنفوسهم فينسبون إلى الله- سبحانه- هواجسها، والله بريء عنها‏.‏ وعزيزٌ عبدٌ يفرِّق بين الخواطر والهواجس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

مِلَةُ إبراهيم الخروج إلى الله بالكلية، والتسليم لحُكْمِه من غير أن تبقى بقية؛ فإثبات ذرة في الحِسبان من الحدثان شِرْكٌ- في التحقيق‏.‏